الأول . أنه رب رحيم وكلمة رب مأخوذة من معنى المربي الرحيم بخلقه الممتن المتفضل عليهم المحسن الكريم الموجد لكل شيء من العدم القادر المحي المميت الرازق المدبر والمتصرف منزل المطر ومنبت الشجر لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء صاحب الخلق والأمر المتفرد في الكون المتصرف الوحيد فيه يدبره كيف يشاء لا منازع له مطلقاً ولا مساعد بتاتاً قيوم في ذاته أزلي في حقيقته لا يتغيّر بالمتغيرات ولا يتأثر بالمؤثرات ولو كان حادثاً جديداً لتأثر بالمتأثرات ولجرت عليه حوادث الزمان والمكان وما الزمان والمكان إلا من جملة خلقه متعلقان بمشيئته وإرادته قائم على خلقه يصرف أحوالهم ويدبر شؤونهم لا شريك له في ملكه هو سبب الوجود الحقيقي من عدم مطلق وكل المخلوقات تحت تصرفه ومشيئته وحكمه وحكمته لا مناص من الإفلات من سيطرته ونفوذه أبداً ولا قدرة للخلق على إدراك شيء من صفاته أو عظمته ولا حتى مجرد الخيال والتصور لقصور تركيبة عقولهم قصوراً حقيقياً عن إدراك ذاته العلية والعقل بكل أبعاده ومدركاته لا يستطيع بلوغ شيء منها أو تحصيله عنها ولا تحتمل رؤية الخالق في هذه الدنيا مطلقاً وإذا كان الإنسان قد عجز عن تفسير أشياء وظواهر كثيرة في هذا الكون وعجز عن إدراك حقائق كثيرة هي من جملة خلقه سبحانه واعتبرها أسراراً فيه كالروح والكهرباء والجاذبية والعقل والنفس والجوهر فكيف يحاول إدراك أو معرفة حقيقة رب الكون وخالق تلك الأشياء وموجدها إذن الفرق واضح بين الخالق القادر والمخلوق الضعيف المحتاج له وأن هناك حدوداً بينهما لكلٍ ما يناسبه وكونه سبحانه غيباً لا نراه بذاك يتحقق الإيمان به عز وجل ولو أن الله تعالى كشف لنا الستر فرأيناه في الدنيا لما كان للإيمان به فائدة لأننا حينها سنراه عياناً ولن نشك في وجوده ولن نرفض تنفيذ ما طلبه منا ولكان جميع الخلق حينها مؤمنين به منقادين لمراده وبالتالي فلا معنى لمفهوم الإيمان حينها وهو سبحانه خالق الكون بما فيه من مخلوقات بما في ذلك الإنسان خلقه وفق صنعة أرادها له بكيفيات معلومة وحيثيات مقدرة عالم بحقائق نفسه ومكنون دواخله غني عن خلقه لا تزيد عبادتهم له في ملكه شيء مهما بلغت طاعة الطائعين ولا ينقص من ملكه شيء مهما بلغ كفر الكافرين أو عصيان العاصين تكفل بأرزاق الجميع لأنه هو الذي أوجدهم فلم يتركهم هباء والكل مفتقر إليه ومحتاج لعطائه وعطاؤه لهم من ناحيتين الأول . عطاء الدنيا وهو للجميع فلا علاقة له بالإيمان والكفر والطاعة والعصيان وإنما هو متعلق بمدى الأخذ بالأسباب فمن أحسن استغلالها أعطته الدنيا بقدر جده واجتهاده فيها لا يحرم شيئاً ما دام قد عمل واجتهد وأخذ بالأسباب الثاني . عطاء الآخرة وهو النعيم في الجنة لمن آمن به وأطاع لا يعطيه سبحانه إلا لمن آمن به وأطاعه وطبق تعاليم منهجه عطاء لا علاقة له بالأسباب وإنما بالمسبب نفسه وهو الله جل شأنه متعلق بمدى الإيمان والكفر والطاعة والعصيان لذا كان نعيماً لا ينقطع والمؤمن الذي يحسن استغلال الأسباب يعطيه سبحانه على قدر اجتهاده عطاءً دنيوياً بالإضافة لنعيم الآخرة لقبوله شرع ربه وتطبيق منهجه وكل هذا يقتضي طاعته للفوز بعطائه في الدنيا والآخرة معاً إذن الرب ولا بد أن يكون قادراً غنياً عظيماً في ذاته يعطي خلقه كل شيء لأنه هو الذي أوجدهم ويلجأ إليه الخلق في كل الأحوال ولا سيما وقت الحاجة والضعف والشدة وهذا ملاحظ عياناً فالإنسان متى وقع في مشكلة ما أو ألمت به مصيبة رفع رأسه إلى السماء مباشرة يرجو الخلاص مما وقع فيه يلهج قائلاً من غير وعي (يا الله) ليقينه بوجود خالق عظيم قوي حكيم يحب العدل ولا يرضى بالظلم قد أبدع الكون وأحكمه وسواه بما فيه لذا وجبت طاعته وعبادته لأن في ذلك تحقيقاً لمصلحة الخلق أما الخالق فهو غني عنهم في كل الأحوال لا ينتفع بشيء من عبادتهم ولو آمنوا جميعاً ولا يضره شيء ولو كفروا به أو عصوه جميعاً فخيره لهم ونفعه لهم ولا خير لهم عليه ولا نفع بتاتاً تلك هي دلالة آلة العقل القائلة : إن الربوبية لها طرفان رب ومربوب خالق ومخلوق وما سوى ذلك غوغائية وشتات لا معنى حقيقي منه الثاني . أنه إله حكيم وكلمة إله تدل على معبود يستحق أن يطاع ويعبد الكل محتاج لقدرته وحكمه وحكمته مما يقتضي تطبيق شرعه واتباع أوامره كما أراد وطاعتنا له سبحانه ليست تفضلاً منا عليه بل هي أقل حق توجب علينا فعله نحوه شكراً له على نعمه الوفيرة وعطاياه الجليلة لأننا إذا كنا في دنيانا سنعبد أحداً أو سنطيعه أو نذكره أو نقدسه أو نعظمه فمن يا ترى هو الأحق بذلك كله أليس الذي أوجدنا من عدم ووهبنا كل النعم الذي أعطى وما زال يعطي على الدوام أما إن صرفنا شيئاً من العبادة والطاعة والذِكر والشكر لغيره ممن لم يخلق ولم يرزق ولم يعطِ ولم يمن ولا نحتاج لفضله ولا لوقوفه معنا فلماذا نعظمه ونقدسه ونعبده هذا ولا شك ضلال مبين ووهم عقيم إذن عبادة غير الله تعالى وطاعته وذكره وشكره في حقيقتها عبثٌ لا طائل منه ولا معنى حقيقة لها سوى أننا نجهد أنفسنا في الجهل والتخبط لمن لا يعلم ولا يفهم ولا يستحق من ذلك شيئاً ولم يأمرنا بشيء بل وربما لا يدري شيئاً عما نعمله له فكيف نعبده ونطيعه وهو عنا غافل وفي نفس الوقت نترك من خلقنا وأوجدنا وطلب منا عبادته وأمرنا بأشياء ونهانا عن أخرى متفضل علينا بكل شيء إذن الخالق هو من له الأحقية الكاملة للتوجه إليه سبحانه بكل أنواع العبادة والولاء والانقياد والاستسلام وصرف أياً منها لغيره يعد ظلماً ووضعاً للشيء في غير محله وبالتالي فلا تبعية إلا لعظيم مستحق لذلك خالق قوي غني قادر معطي منعم متفضل وإذا كان الجميع متفقين على وجوب الشكر لمن أسدى لغيره معروفاً رغم ضعفه وعجزه وقلة حيلته عن نفع نفسه أو دفع ضرر عنها فما هو الواجب يا ترى تجاه مولي النعم ومبتدئها ونعمه لا تعد ولا تحصى فضلاً عن أن يُجحد فضله وتنكر نعمه وبالتالي فالعبودية ينبغي أن تصرف للأحق بها الذي شرع لخلقه أفضل نظام للحياة ومنهج لهم لو فَطِنوا لذلك ثم إن من مصلحة العباد وحدانية الإله ليمدهم بالقوة والتأييد وكلهم أمامه سواء أما لو كثرت الآلهة تنازعوا فيما بينهم وحينها يتشتت العباد أيهم يعبدون وعندها سيضيع العباد بين تلك الآلهة وسيفترقون وستضيع حينها معاني العبادة والطاعة الحقيقية ومع ذلك فمنهم من ينكر وحدانيته ويقصر في عبادته ويصرف العبادة لغيره وكان الواجب خلاف ذلك يعبدونه لا يشركون به شيئاً ويصرفون له كان أنواع العبادة من محبة وخوف ورجاء واستعانة واستغاثة واستعاذة وذبح ونذر وحلف وتوكل ورغبة ورهبة وتعظيماً وتألهاً وخشوعاً وخشية وخضوعاً وإنابة وما إلى ذلك كل تلك عبادات يجب أن يقصد بها وجه الله تعالى وحده دون سواه وإلا فلا معنى حقيقي من عبادة غيره سبحانه من أي وجه كان الثالث . صفاته لا مثيل لها سبحانه فهو خالق عظيم بارئ الأكوان مصور الأرحام موجد من العدم كل الخلائق محتاجة له لضعفها واحتياجها قيوم على تصريف شؤونهم وتدبير أمورهم كيفما شاء أتقن صنع الكون بتناسق محكم وتكامل تام وتناغم منسجم دالة على كماله وجماله وجلاله لا أم له ولا أب ولا زوجة ولا ولد ولا شبيه ولا مثيل ولا نظير واحد أحد فرد صمد أما الواحد فهو المتفرد بذاته في الكون الذي ليس له ثانٍ فانتفى بذلك التعدد عن الله تعالى وأما الأحد فهو الذي ليس مركباً من أجزاء يحتاج بعضها إلى بعض فانتفى بذلك التبعّض عن الله عز وجل وكونه أجزاء فهو سبحانه ليس كلٌ يتعدد إلى غيره وليس كلياً يتبعض ويتجزأ وتلك حقيقة ظاهرة في الكون فكل المخلوقات لها مثيل من جنسها فهي كلاً يتعدد كما أنها جميعها يتجزأ إلى أجزاء يتكون منها كالإنسان مثلاً يتركب جسمه من أجهزة وأعضاء يحتاج بعضها لبعض لتقوم بها حياته قياماً طبعياً ولا قوام لسائر المخلوقات في الكون إلا بنعم الله تعالى عليها وإلا ماتت وتلاشت وانتهت وعلى ذلك فكل ما في الكون غير الله سبحانه إما نعمة من نعم الله تعالى أنعم بها على خلقه ويحتاجون إليها ولا غنىً لهم عنها وإما مُنعَم عليه بتلك النعم محتاج لها والله سبحانه هو الذي أوجد الخلق وأوجد تلك النعم وبه وبأمره قام أمر السماوات والأرض لا سواه لم يتخذ زوجة ولا ولداً لغناه التام عن ذلك خلق الخلق بكامل صفات الكمال والجلال والجمال وهو غني عنهم بكل حال وقبل أن يخلقهم وضع لهم منهجاً حقاً يحقق لهم السعادة في دنياهم وأخراهم ذلك هو القيوم بحق غني في ذاته مستغنٍ عن خلقه تماماً الرابع . أنه صانع الصنعة لأنه أعلم بصنعته وما يصلحها وما ينفعها وهذا الكون بما فيه من جملة خلقه وإذا كنا قد اتفقنا على أن الله تعالى هو الذي خلق الكون بما فيه إذ يستحيل أن يخلق الكون نفسه فلا بد له من خالق ويستحيل أن يكون أزلياً سرمدياً لا بداية له ولا نهاية لأن كل ما فيه له بداية ونهاية حتماً إذن هو رب الكون وصانعه وموجده ومدبره ومصرفه ورب العالمين أجمعين القيوم بشؤونه وبتصريف أموره وبرزق خلقه ويدل على قدرته وتصريفه سبحانه ذلك الإعجاز المرئي في مخلوقاته كالشاهد الحاضر لكل من تفكر بعقله والذي هو دليل على إتقانه عز وجل للكون بما فيه وبمن فيه من شواهد ومخلوقات قد جعل لكونه نظاماً لا يدركه أو يحيط به إلا هو سبحانه وإذا كنا قد اتفقنا على أن الله تعالى هو خالق الإنسان إذ يستحيل أن يخلق الإنسان نفسه ويستحيل أن يوجد عبثاً من غير خالق إذ لا مخلوق إلا بخالق كما أن لكل سفينة قائداً ولكل سيارة سائقاً ولكل كتاب مؤلفاً وهو الذي ذرأهم وبرأهم وقسم لهم الأرزاق وهو الذي صرّف شؤونهم وشرع لهم منهجه وقضى لهم وقدّر عليهم وبالتالي فهو الأحق بالعبودية الذي يجب أن تُصرف له كل أنواع العبادة الحقة قد حدد للخلق هدفاً في الحياة لا يتجاوزوه حين سوى نفوسنا وهو أعلم بما هو أنسب لها وحين شرع لنا كل ما من شأنه خير نفوسنا وصلاحها فضمن لنا بذلك أفضل حياة سعيدة متى أقمنا شرعه وطبقنا منهجه وكل ذلك ولا ريب يقتضي الإيمان به ويوجب طاعته لأن في ذلك تحقيق مصالحنا ومنفعتنا مع غناه التام عنا وهذا هو الفرق الجوهري بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره فرق بين من يخلق ويقدر ويرزق ويأمر وبين من لا يخلق ولا يقدر ولا يرزق ولا يأمر فالذين عبدوا الشمس والقمر والنجوم والشجر والأحجار والأشخاص والطواغيت من أمرهم بذلك ! أتلك الأشياء أمرتهم ! متى وكيف وأين مناهجها ! كل ذلك هراء والحقيقة هي أن جهلاء الناس هم الذين اتخذوا تلك الأشياء من عند أنفسهم على أنها آلهة تعبد وتطاع فتركوا عبادة من أمرهم بعبادته وطاعته وهو الله سبحانه وذهبوا يعبدون من لم يأمرهم بشيء ولا يعلم معنى العبادة أصلاً فهل هناك ظلم للنفس أكبر من ذلك ! إذ كيف تسنى لبشر مساواة خالق قوي بمخلوق ضعيف ! والفرق بين الاثنين واضح كالفرق بين السماء والأرض