دائرة النسيان (الإرادة العليا)

يعتقد الإنسان أنه هو الفاعل في كل شؤون حياته وينسى أن من خلفه إرادة عليا هي الفاعلة
ويعتقد أن بإمكانه فعل كل شيء لا راد له إطلاقاً ويتجاهل المصرف الأعلى جلت قدرته
ويعتقد أن كل ما فكر فيه أو أراد فعله سيكون بكل بساطه ويغفل عن المدبِّر الحقيقي سبحانه
ويظن أكثر البشر أن حياتهم ملكهم وطوع أمرهم كيفما شاءوا لا يمنعهم من ذلك مانع
وكل إنسان يفكر أن حياته مجرد مسرح لما أراد ولما يريد وبكل سهولة ويسر هكذا ليس إلا
يتغافلون عمن يملك القدرة الحقيقية والفعل النافذ الذي لا راد له مطلقاً
ويجهلون المصرف والمدبر الذي لا مانع لما أراد ولا راد لما منع بأسباب وبلا أسباب
هي الإرادة العليا لله جل في علاه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن سبحانه
وما البشر سوى خلائق يدورون في فلك القضاء والقدر لما حكم جل جلاله أزلاً
فما جرى على يديك واقعاً مقدَّر أن يجري على يديك حتماً قبل أن توجد
وما جرى على أيدي من سواك مقدَّر على أن يجري على أيديهم حتماً قبل أن يخلقوا
ليس منهم أحد قادر على الاختيار الحقيقي للقدر الكوني لا جلباً ولا دفعاً
سبحانه قسَّم الدنيا بين العباد كلٌ منهم له دور في حياته وفق مقدرات كونية أزلية
لذا كان الرضا بالقضاء والقدر والتسليم لذلك هو رأس الإيمان الاطمئنان الحقيقي
وما تفاوت العباد إلا بذلك وبه وعليه كان من الناس مؤمن قوي ومؤمن ضعيف
وما أفعال العباد في ديناهم سوى شهادات عيان على أنفسهم وعلى بعضهم
ليعرف كلٌ منهم ماذا قال وماذا فعل وماذا عمل وفق مراد الله تعالى أم خلاف ذلك
لا تعتقد أنك أنت الفاعل لمجرد إرادتك المطلقة وتنسى إرادة الله العلي العظيم
وكأنك حر التصرف في كل شيء ليس عليك رقيب أو حسيب أبداً
كل ما يجري في هذا الكون الفسيح وبكل تفاصيله ودقائقه الكبيرة والصغيرة حتى
فلحكمة بالغة لربنا الكبير الخالق القدير أدرك العباد ذلك منه أم لم يدركوه
وكل تراتيب القدر كافة الصغيرة والكبيرة منها جميعها لا عبثية فيها إطلاقاً
وقدرة الله سبحانه هي الفاعلة في الكون وإرادته هي الغالبة وحكمه هو النافذ
يرفع لحكمة ويخفض لحكمة يقبض لحكمة ويبسط لحكمة يعطي لحكمة ويمنع لحكمة
يداول الأمور والأيام بين الناس ويبتليهم بالخير والشر ويختبرهم بالعسر واليسر
والخلق في كل ذلك يختلفون منهم الموقن المسلِّم الراضي المخبت الطائع المطيع
ومنهم من هو دون ذلك تماماً المشكك المعرض المعترض الساخط المتمرد
ومنهم من هو بين وبين تارات يوقن ويسلِّم ويطيع وتارات يشكك ويعرض ويعترض
منهم المدرك أن الله تقدست أسماؤه هو المهين على جميع الخلائق المحيط بهم
ومنهم الجاهل بذلك الغافل المتغافل يحسب أن الدنيا مجرد لعب ولهو وعبث فقط
الحياة مسرح عمليات كبير للخلائق شتى لكنهم في قبضة ربهم في عالم الحقيقة
وكل ما يجري فيها بمشيئته المطلقة جل شأنه محال أن يحصل شيء بغير علمه وإذنه
فما اعتقد العباد أنه شر مطلق وظلم مطبق وفساد محيط بهم في دنياهم
هو في حقيقته من جملة تقلبات الخلائق في درجات البلاء بما قضى سبحانه وقدَّر
ولو شاء لما كان ولكنه كان بحكمة ولحكمة جهلها الخلائق ولم يدركوا غاياتها
فلا تعتقد أنك أنت من نصر الدين ولولاك ومن معك لفسدت حياة الناس كافة
وأن غيرك من أفسده هو ومن هم على شاكلته بهم انتشر الفساد في الدنيا
وأن سواكم مثلكما له دور بارز وفاعل في حياته لولاه لما كان ما كان
ما قدَّره ربنا العليم حاصل وفق ما أراد وكائن كيفما شاء وبكل دقة كما قضى وقدَّر
وكله خير في حقيقته سواء كان خيراً ظاهراً مطلقاً أم كان خيراً بما في ظاهره شر
وما أنا وأنت وغيرنا من البشر سوى شهود على أنفسنا وعلى غيرنا ليس إلا
هي الحكمة التي جعلت الخير ينتشر بكيفيات معينة وفي أزمنة وأمكنة محددة
وهي الحكمة التي جعلت الشر ينتشر بكيفيات معينة وفي أزمنة وأمكنة محددة
والخلائق في كل ذلك في دوائر البلاء واقعون وفي درجات الاستدراج قائمون
لا تنس أن الإرادة النافذة لله تعالى وحده ليست لك ولا لغيرك من البشر مهما كان الأمر
مهما كانت الظروف والأحوال فالجميع واقع تحت قدر الله جلت عظمته وقضائه وحكمه
حسبك أنك واقع ضمن دائرة الرضا والتسليم لحكمه وحكمته من دوائر البلاء الواقع
وحسبك أنك في درجات البلاء تلك المحيطة بك كنت ضمن جنود الخير ترقى
ولعل غيرك واقع ضمن دائرة التسخط والاعتراض على ما قضى وقدَّر سبحانه
يشقى في دركات الشر لأنه من جملة جنوده لم يتفطن أنه واقع ضمن دائرة البلاء
هذا هو مربط الفرس الحقيقي من وجودنا في هذه الدنيا لو أدركنا ذلك
خلقها الله تعالى كما أراد لحكمة وأوجد البشر فيها لحكمة كما أراد
وتركهم يعملون فيها ضمن دائرة قضائه وقدره لا يخرجون عن سيطرته أبداً
يبتليهم بأنفسهم ويختبرهم ببعضهم ومن ثم سيجازيهم على أعمالهم
منهج حق جاء به رسل الصدق عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام
ونشروه بين البشر ليعلموا مراد ربهم منهم بما لا يدع مجالاً للشك أو الارتياب
مبشرين بمآل المطيعين ومنذرين بمصير العاصين في الدنيا والآخرة سواء
ليعي الخلق الحقيقة ويقفوا عليها بأنفسهم ويدركوا مراد ربهم عز وجل منهم
تلك هي الإرادة العليا له جل جلاله وذلك هو الإنسان وحقيقته في دنياه ! حكمة بالغة