في الإنسان قدرات كثيرة ومتعددة منها قدرات إيجابية ومنها قدرات سلبية للأسف من أظهر تلك القدرات السلبية قدرة (الجدل) لما هو مقتنع به ولو كان مخطئاً يحاول وبشتى الطرق وكافة الوسائل أن يثبت للآخرين صحة ما يعتقده ويفكر فيه فيرى إيجابيات ما هو مقتنع به ليس إلا ويرى سلبيات ما هو ضد ذلك تماماً وفي ذات الوقت لا يرى سلبيات ما يعتقده ولا يرى إيجابيات ما هو منصرف عنه يحاول توظيف كافة قدراته العقلية والمنطقية والفكرية في البرهنة على ما يريد وحسب وأيضاً يحاول توظيف كافة تلك القدرات في دحض حجج الآخرين ممن يعارضوه هذه القدرة في حقيقتها مشكلة كبرى تواجه كافة البشر قلَّ من ينجو منها قليلون هم الذين يستطيعون النظر في حقائق الأمور ثم التمييز فيما بينها بحيادية تامة وهذا في الحقيقة لأن الإنسان يتأثر بكل ما حوله وما يحيط به من مفاهيم وقيم وليس كل البشر لديه القدرة على التفريق بين الأشياء حينما يكبر ويدرك ويعي بل عامتهم يبقى على ما هو عليه يسير في ركب فكر درج عليه حيناً من الدهر والذي يجب معرفته هو أن هناك فرقاً جوهرياً بين القناعات من حيث المبدأ ففي العقل قناعات غير قابلة للنقاش لأنها تبنى على أمور منطقية معقولة تماماً تأتي هذه من باب المسلَّمات أو الأولويات من الأمور المبتوت فيها والمقطوع بها وقناعات أخرى وقتية سرعان ما تتغير وتتبدل بتغير الظروف والأحوال والمواقف فالظروف والأحوال والمواقف لها تأثير يفرض على الإنسان أن يتغير بموجبها قطعاً وقناعات ثالثة نسبية قابلة للنقاش بل وقابلة للتغيير إذا ما تغيرت المفاهيم ونضج العقل والإنسان بطبعه يتغير ويكبر وينضج وتطرأ عليه أمور ستغير من مواقفه حتماً وقناعات رابعة شخصية لا مبررة تؤول إلى حيث التباين في الأفكار البشرية فالبشر يختلفون في طريقة تفكيرهم وفي نظرتهم للأمور وهذا أمر طبعي ولا شك كل تلك القناعات تصوغ الإنسان ومن حيث لا يعلم لما يسمى بالشخصية ولذا فحقيقة الشخصية أنها عبارة عن قناعات مجتمعة تميز الفرد عن غيره من البشر تلك القناعات التي كونت الشخصية تحاول أن تفرض حولها طوقاً لحمياتها من التدخل وتفهمها أن أية محاولة لعملية إقناع من أي شخص آخر هذا يعني التدخل في شؤونها هنا ومباشرة تستنهض النفس قدرة الجدل وتحفز عمله ليصادم محاولات الإقناع تلك ظناً منها أن بتلك الطريقة يتم الحفاظ على استقلالية الشخصية وسيادتها من تعدي الآخرين وهنا يكون الجدل في مفهومه مجرد طريقة لحماية الشخص من الاقتناع بمفاهيم غيره لأن ذلك يعني في حينه التبعية له لا الاستقلالية وهذا مرفوض عند عامة الناس قطعاً ولو كان الداعي في حد ذاته نبياً مرسلاً من عند الله جل في علاه وهذه مشكلة حقيقية فإذا كان الإنسان سيصادم نبياً مرسلاً من ربه سبحانه بما جاء به من معجزات وإذا كان قد رفض الانصياع للحق الدامغ الذي جاء به وجرى على يديه بالبراهين فكيف يا ترى سيقتنع بمن هو دون ذلك وهو لا يملك مثل تلك المعجزات الخوارق لذا كان الجدل مشكلة حقيقة تواجه البشر إذ لولاه لما كان ما كان من مفارقات والعجيب أن الناس سرعان ما يقتنعون بما يحبون ويعتقدون أنه يصب في مصلحتهم فالمصلحة والأمر المحبوب المرغوب فيه يغيِّب شموخ النفس ويكسر سطوة الشخصية وربما جعلها مجرد تابع طيِّع تماماً لما تحب أو ترغب وبدون أدنى مقاومة أو مساومة هنا لا تجد مكاناً للجدل والنفور أبداً بل التسليم والانقياد والتبعية وبصورة مباشرة إذن المسألة ليست مجرد قناعات وحسب بقدر ما هي مسألة طلب لرغبات خفية وهذا يعني أن للقلب عادة بل وغالباً سلطان على العقل وتغلُّب عليه لدرجة كبيرة وهذا يعني أيضاً أن الرغبة واللذة تهيمن على القناعة وتسبقها دائماً بل وتقودها وربما سيَّرتها إلى حيث تشاء بل وربما بدلتها إلى ضدها وبكل سهولة ويسر والإنسان بطبعه يميل إلى حيث الرغبات والملذات والشهوات وكل ما هو مثير قليلون هم من يتحكمون في تلك الأمور ولهم قيم يوقفون النفس عند حدودها وكثيرون هم الذين لا يستطيعون أن يملكوا أنفسهم المنطلقة في كل شيء بل إن نفوسهم هي التي تملكهم وتسيِّرهم إلى حيث شاءت ربما للحضيض حتى قف مع نفسك وألزمها حدوداً لا تتجاوزها مهما كانت الظروف والأحوال قف على قناعاتك الإيجابية وحاول تغيير قناعاتك السلبية ولا تكن وقَّافاً عند حد الجمود فالتغيير سنة كونية ومن لا يتغير ولا يتطور وظل جامداً فهذا في الحقيقة لنقص فيه قف عند حدود رغباتك وملذاتك المباحة واحذر تجاوزها إلى حيث الانغماس في المحرمات التي ليس لها حدود وهذا يعني أن نفسك تسير في طريق هاوية محتومة من حيث لا تشعر لن تستطيع الوقوف قبلها لتنجو ما دمت لم تستطع حد رغباتك والوقوف على حدود المقبول أنت المتحكم في مستقبلك ومصيرك ما دمت أنت المتحكم في قناعاتك ورغباتك وملذاتك وأنت المحكوم في مستقبلك ومصيرك ما دمت أنت المحكوم من قناعاتك ورغباتك وملذاتك وما الجدل سوى نتيجة حتمية لمواقفك من كل تلك الأمور ومدى فهمك ووعيك لها اجعل عقلك المتزن هو القائد المتحكم في مواقفك بكل حيادية وعدل وإنصاف وفهم ووعي لا تجعل الجدل العقيم هو المتسلط المسيطر على أفكارك وأقوالك وأفعالك وقراراتك ومواقفك وصدق سبحانه القائل في الذكر الحكيم : (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) ! تأمل
